غَيم - ريم محمد درويش

في السّاعة الخامسة مساءً، في إحدى شوارع المدينة، تحديدًا في الشّارع الذي سألتقي فيه بها بعد عشرين عامًا. حينها كان الطقسُ باردًا والغيوم متقاربةً مع بعضها ومن شدّة كثر تلك الغيوم تخيلتُها، نعم تخيلتُ محبوبتي التي أطلقتُ عليها ذات يوم اسم غيمة كأنها أتت من تلك الغيوم وبرزَت ابنة هذه السّماء ساطعة، بعينيها الزّرقاوتان كزرقة السّماء التي أراها الآن، فملامح وجهها جميلة، تبدو وكأنها من أطفال ديزني تغزوها البراءة. 

لا تمتلكْ غمازة في خديها ولكن ابتسامتها كفيلة كي تجعلني أشرد وأنسى أين أنا ومن أنا.

نظرتُ إلى ساعتي لأشاهد كم من الوقت مرّ، فالنّصف السّاعة التي مرت شّعرتُ وكأنها مئة عام ولا تُقارَن بالعشرين عاما التي مضت.

حقًا لا تقارن، فخلال هذه السنين التي كنتُ بعيدًا عنها كان هناك أملًا يَشِع داخل ضلعي الأيسر، يخبرني على الدّوام بأنّها حتمًا سيأتي يوم وسنلتقي. ولكن اليوم أشّعُر وكأن الأمل تلاشى والوقت أصبحَ ثقيلًا وضربات قلبي تزداد، أخجل أن يسمعها من حولي.

يا له من شوق! يا له من حنين جَعَلَ روحي تعاني والجسد هزيلًا، فتوقفت عن تخيلها وأصبحت أشاهد الناس لعلِّي ألمح طيفها بينهم لعلّي ألمح ملامحها التي حفرتها بدهاليز ذاكرتي وأستطيع تمييزها من بين ألف شخص.

حلّ المساء واختفت الغيوم وكاد النّاس يذهبون إلى منازلهم وأصبحت السّاعة تشير إلى التّاسعة مساء ولم تأتِ بعد، استلقيتُ على كرسي مقُابل مطعم، نظرت لداخله، واستوحى لي بأنّه مفتوح فرآني شابٌ يبدو كأنه يعمل نادلًا في هذا المطعم وسألني:

ما بِك أيها الرجل؟!

هل تريد شيئا؟!

هل أجلب لك شيئًا تتناوله أو شيئًا تشربه؟!

كنتُ فقط أستمع للأسئلة التي يقولها ولم أجب، كنت أريد أن أقول له نعم أريد، ولكن ما أريده ليس ماءً ولا طعامًا، أنا أريد محبوبتي تلك الغيمة التي تُظلّلني بظلّ حبها وتعاملها الحسَن معي في خيالي وواقعي، نعم أريد شيئًا، أريدها هيّ أريد أن أراها وأُشبع عينيّ برؤيتها، اشتقتُ لها وشوقي لها بلغ عنان السّماء...

بعد لحظات سألني مُجددًا:

أتبكي يا رجل؟!

أجبت حينها: نعم أبكي، فهل البكاء على من فقدناهم حرام، أم بكاء الرّجل عَورَة؟!

فلم يجب النّادل، كان واضحًا على وجهه الذّهول، والاستغراب لمَا يحدث معي. فقطع تفكيرنا صوت سيارة إسعاف فزّتني من مكاني مذعورًا قمتُ مسرعًا كي أهرُب، ولكنهم قبضوا عليّ كالمعتاد بعد كلّ مرة أهرب منهم.

صرخ النّادل بصوتٍ عالٍ فقال لأحد الأطباء: إلى أين ستأخدونه؟! ماذا عمل بكم هذا الشّخص المسكين؟! 

اتركوه يذهب.

فقالوا له: إنّه مجنون.

قال لهم النادل: شخص كهذا مجنون؟! أنا لا أصدقكم.

قالوا: جنونه ليس بكامل عقله وإنما هو مجنون بها، بزوجته التي  توفيت منذُ عشرين عامًا ولا يريد التّصديق بهذا الخَبر، ومن بعد وفاتها اختلّ عقله وأصبح يتصرف تصرفات غريبة تؤلم القلب، فنخاف أن يؤذي نفسه أو يؤذي أحدا. 

أحد الأشخاص الذين يعرفونه أتى بهِ إلينا وهو لا زال يظنّ بإنها موجودة، وفي كل مرة يتمكن من الهروب و يأتي إلى هنا يعتقد بأنه سيلتقي بزوجته وأنها مسافرة إلى مكان ما ولا يصدق بأنها ماتت منذ مدة.

سمعتُ حديثهم وابتسمت وقلت لهم جميعًا أنا لستُ مجنون وهي لم تمُّت وسيأتي يوم وسنتقابل وستأخدني معها إلى حيث ما توجد هي وسأظل أهرب حتى يحين موعد لِقائنا وبعدها لن تَلقوني ولن تقبضوا عليّ،

 حينها فقط ستُصدّقونني بأنني هربت لمقابلتها، أعلم بأنها لم تأتِ اليوم لكن حتمًا ستأتي غدًا وأنا على يقين بذلك، والله سوف يُحقق لي أُمنيتي وسيُحدد موعد لِقائنا!

أنا لست مجنونًا أنا فقط اشتقتُ لها!

تعليقات

إرسال تعليق

اكتب تعليقا لتشجيعنا على الاستمرار...

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد الشريف.. العالِم الطيار - السيد سين

فماذا أقولُ ياقُدسي - سارة سامي