رِهانٌ خاسِر - عبد الله محمد الجوفي

 

 
كانت ليلة باردة، تلك الليلة التي اجتمَعت فيها الأُسرة المُكوّنة من الأم الفاضلة وابنها عبد الله وابنتها ليلى، وذلك بعد أن فرغَت الأمّ من صلاة العِشاء، وأنهَت ما تبقَى من أعمال المنزل، وأحضرَت مَوقدًا للتّدفئة، فالتفّت حوله الأسرة الصّغيرة، وكان حنان تلك الأم يصل دفؤُه إلى أفئدة طفليها قبل دفء ذلك الموقد، فينعكس ذلك سرورًا وبهجةً عليهما، كانا يَمدَّان أيديهما نحو الموقد وهما مسروران ويحاول كل واحد منهما أن يكون له السّبق في إبقاء يديه مدّة أطول أعلى مَوقد التدفئة، وكانت الأم تنظر إليهما بسُرورٍ مُتناسيةً مُعاناة حياتها اليَومية فكانت كل حركة منهما تُبهجها وتُنسِيها هموم الغد القادم الذي لا تتّضح ملامحه، كان الدّفء الأُسري أثَرُه هو الغالِب، وكان هو القاهر لشتاء تلك الليلة القارس بردها.
وبينما كانت الأم مُستمتِعةً بسماع أعذب الألحان المُتمثّلة في أصوات طفليها، وهما أكثر استمتاعا بأُنسٍ تَبثُّه أمهما حولهما من خلال نظرات السُّرور المُعبّرة، والابتسامات اللطيفة التي ترسلها نحوهما، تدخل في الوسط صوت غريب يوحي بوجود شيء مُريب، فأشارَت الأم إلى طفليها مُوحِيَة لهما أن يَنصِتا، فلما تبيّن لها أن غريبًا يُحاوِل التّسلّل لسَرقة إحدى الأغنام، قالت: "لا تخافا وابقيَا هنا، لا تتبعاني"، وهَبّت بشجاعةٍ مُنقطِعة النّظير، وأحدثَت صوتًا يُوحي للسّارق أن رجلًا يجري نحوه وأحدثت جَلَبَة هزّت كيَان السّارق، الذي لم يتَمالَك نفسه فرمى بها على الأشوَاك مُطلِقا العنان لقدميه تاركًا نعاله وراءه، تفقّدت الأم أغنامها، ولما شعرَت بزوال الخطر واطْمأنّت عادت مُسرعةً إلى  طفليها. مُبتسِمةً وكأن شيئا لم يكن، دخلَت عليهما قائلة لهما: 'لعلّكما قد شعرتما بالخوف'، قال الابن: 'نعم يا أمي خِفنا عليك كثيرًا من هذا السّارِق'.
فتَوجّهت إليهما بالكلام وهي مُبتسمة يَظهر عليها اعتزازها بنفسها فقالت: 'يا حَبيبَاي، اعلمَا أنّ السّارق دومًا يتّصف بالجُبن، والذّل، فهو أجبَن من أن يواجه حتى امرأة مثلي، كما أن صاحب الحقّ يجِب أن يتَمتّع بالقوّة التي يَستمدّها من اللّه سبحانه  وتعالى قبل أي شيء، ثم من إيمانه الرّاسخ بأنّه يُدافع عن حقّه، ولا يهمّه ما يُلاقي في سبيل الدّفاع عن حقّه، وأنّ الذي يتغاضَى عن الدّفاع عن حقّه هو أجبَن من ذلك السّارق الذي لاحظتُم كيف أرعبَه صوتي المُتجهّم الذي أحدثتُه، ففرّ هاربًا...
كما أنّه في عُرفنا أن من لا يحمي ماله أيًا كان ذلك المال، فهو مَذموم بين عَشيرتِه وأهلِه، ولا تَنسيَا أنّ هناك  الكثير من النّساء لهنّ مواقف في البّطولة وصدّ الباطل وعدم الخضوع له، وبمناسبة ذِكرهنّ سوف أحكي لكما ليلَة غد بإذن الله حكاية صديقتي روضة، لكن الآن نحن بحاجة إلى النوم، فأنا أصحُو كما تعلمون قبل أذان الفَجر.
رغم شوق الطّفلين لسَماع القصّة، إلا أنهما شعرا بحاجة أمهما للنّوم والراحة، فوافَقا وذهبَا إلى النّوم وكل واحد منهما يتخيّل أحداث القصّة التي سترويها لهما أمّهما في الليلة التالية...
في موعد السّمر كانت الأمّ قد نسيت وعدها لهما بسبب انشغالها وأعمالها اليومية المرهِقة، إلا أن الطّفلين لم ينسيَا ذلك الموعد فبادرت الطفلة ليلى بالقول: 
أمي: نحن ننتظر بفارغ الصّبر سماع قصة صديقتك روضة، نريد أن نعرف ما علاقتها بما حصل لنا ليلة أمس. 
تبسّمت الأم ثم شرعَت في سرد القصّة قائلة: يا أبنائي روضة كانت تملك حظيرة (بستان) وكانت تملك ما هو أثمن من البستان فقد كانت تملك قلبا فيه من الشجاعة ما يلزم، ومن الرحمة ما هو ضروري، ومن المروءة أندرها، ومن الكرَم أجزَله، فكانت تَعتني بهذا البستان المُلاصق للبيت الذي تملكه وتسكن فيه مع حفيدتها أمل، وكان خريف (فاكهة) هذا البستان لا يحرم منه الجيران ومن هو محتاج أو محروم، كانت هي الحارس لهذا البستان، وفي يوم من أيام الخريف (موسم نضوج الفاكهة) حضرَ إليها أحد المشهورين بالسّرقة وهي تعرفه وهو يعرفها، فبادر بإرسال ابتسامته نحوها قبل توجيه الكلام إليها، ثم قال لها: أمه روضة أتيت من أجل أن تعطيني من خريف البستان، وأنا أحترمك دون الناس ولن أمدّ يدي أو أدخل بستانك أبدا، احتراما لك، شعرت بصدق كلامه خاصة أنه لم يُحاول التّعرض لبستانها من قبل مع شهرته بسرقة أكثر الناس حرصا منها، فتبسّمت، ثم نهضَت وقطفَت له من  ثمار البستان حاجته، وقالت له: أنا فعلا شعرت بصدق كلامك يا ولدي، واعلم أن رزق الحلال أطيب وألذ من الحرام، وأنك محاسب بين يدي الله على سرقة الناس، وأنه لا بد لكل ظالم من نهاية، واعلم أن فضيحة يوم الحساب أشد وقعا وأكثر إيلاما من فضيحة الدنيا التي أصبحتَ لا تبالي بها، خذ هذه الفاكهة طيّبة بها نفسي وإني أدعو الله أن يهديَك!
أطرقَ بوجهِه ووضع عينيه في الأرض وأخذ الفاكهة وخرج،  ويبدو يا أولادي أن هذا الرجل أخبر أحدهم ممن اشتهر بأخذ حقوق الناس بالباطل عُنوةً بما حصل معه، فما كان من ذلك الرّجل إلا أن راهن صاحبه على أنه سوف يذهب إلى صديقتي روضة في وضح النهار ويخيفها، فيجعلها تعطيه ما يريد من ثمار البستان، فحضر إليها وشرع في مخاطبتها قائلا: قومي اقطِفي لي من البستان خريفا!
نظرت إليه كما يقال بنصف عين، غير وَجِلَة، ولا خائفة منه، فقالت: يا بني، هذا بستاني، ثُماره أعطيها لمُشترٍ يدفع ثمنها أو لسائل يحتاج أكلها، ولكن لا أعطيها  لمُغتصبٍ مُتغطرِس مثلك، فسارع بغضب إلى الرّد عليها: هكذا! لا تلومي إلا نفسك، أنا قادر على أخذ ما أريد رغما عنك، وسوف ترين، ثم غادرَ مُتوعّدا. 
 كانت حفيدتها أمل طالبة المدرسة الابتدائية تسمع هذا الحوار، فخافت، لكن جدتها روضة قالت لها: لا تخافي يا ابنتي، اعلَمي أنه اللّيلة لن يُنفّذ تهديده ويحضر لسرقتنا، فهو سوف يوهمنا أنه لن يحضر، ثم يفاجئنا في ليلة أخرى، ولكن أنا له بالمِرصَاد، لن أسمح له بأن يأخذ شيءٍ من ثمَرَة جُهدي.
وبالفعل يا أولادي صدَق حدسُها ولم يحضر في تلك الليلة، وفي اللّيلة التالية وكعادتها صعَدت روضة سطح منزلها المُطل على البستان ومعها حفيدتها أمل، ثم أخذ النُّعاس يسيطر على أمل، فطلبَت منها جدتها أن تنزل لكي تنام حتى تصحو مُبكرًا للذهاب إلى المدرسة ففعَلت، واستمرَت روضة في الحِراسة، وفي وقت قرب منتصف الليل شعرت بحركة بجانب سور البستان، ولكنها أجّلَت ردّة فعلها لثواني. أتعرفون لماذا  يا أبنائي؟ قال الابن: لا يا أمي.
قالت: ذكرت لكم اللّيلة في بداية تناولي للقصّة أنها تملك قلبا رحيما، فما كان منها إلا أن تحرّكت نازلة فقالت لحفيدتها أمل: لا تخافي ابنتي أنا سوف أرمي السّارق بالبندق فلا يُفزعك صوتها، وصعدت إلى السّطح وهي تُمسك تلك البندق بكل شجاعة.  فأطلقت عليه رصاصة واحدة وهو قد قفز من السور إلى  البستان، فدبّ الرُّعب في قلبه وأخذ يتسلّق الصور قاصدا الهروب، فيسقُط ثم يُعاود الكرّة حتى نجح فقفز من أعلى السور إلى الأرض المجاورة، وروضة تشاهد ذلك المنظر، فأتبعته برصاصة أخرى، فزاد ذُعرُه وأخذ يجري مثل الثّعلب الهارب. 
فصارت شجاعة صديقتي روضة وعدم خضوعها لمن أرد أن يَبتزّها، ويسلب حقها بالباطل، مَضربًا للمَثل، ونهجًا يُحتذى به، وأنا اقتديت بها ليلة البارحة، وهكذا أنتم يا أبنائي أرجو أن لا تَنسوا هذا المبدأ، وأن لا تتركوا حقّكم يُنهَب مهما كلّفكم ذلك، واعلموا أنّ من يُدافع عن نفسه ويَحمي ماله مأجور من الله ومنصور وإن نالته بعض المعاناة. 
قوموا يا أولادي إلى النّوم فقد تأخّر الوقت كثيرا. حفظكما الله من كلّ شر! 




  •  

تعليقات

  1. جميل .. الموضوع مفيد أحسنت

    ردحذف
  2. كلام جميل الله يوفقك

    ردحذف
  3. كلام رائع ربي يحفظك ويسعدك

    ردحذف
  4. موظوع جميل جداً

    ردحذف
  5. ابداع ما شاء الله حفظك الرحمن والدي

    ردحذف
    الردود
    1. حفظكم الله من كل شر

      حذف
  6. قصة جميلة اتمنى لك التوفيق و النجاح و ميزدآ من الألق و التالق و الأبداع

    ردحذف
  7. دايما مبعدع استاذنا الغالي

    ردحذف
    الردود
    1. من ذوقكم حفظكم الله

      حذف
  8. ماشاءالله أستمر ربي يكون في عونكم

    ردحذف
    الردود
    1. تسلم الله يوفقك ياخالو واشكرك الكلام القوي

      حذف
    2. الله يحفظكم

      حذف

إرسال تعليق

اكتب تعليقا لتشجيعنا على الاستمرار...

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد الشريف.. العالِم الطيار - السيد سين

فماذا أقولُ ياقُدسي - سارة سامي