شُباط - 1945 - كفى اليافعي
حيثُ الصمت يُغلِّف كلَّ شيء، والشمس قد توارتْ خلف الغيوم، والسماء قد لبستْ عباءتها، مُعلنة بداية المساء، كنتُ أجلس وحيدة في زاوية من الغُرفة، مُتقوقِعة على نفسي فوق مقعد خشبي أحد أذرعهُ قد أكلتهُ دابّة الأرض، لاحَ شبح ابتسامة حزينة على وجهي عندما تراءَتْ لي صورة طفلتي بضحكتها البريئة، التي كانتْ تعبقُ بالمكان كلما فاحتْ من فاها الجميل.
عيناها اللّوزيتان اللّتان ورثتهما مني، خُصُلات شعرها المُنسدِلة على كتفيها الصغيرين والتي كانت تداعبها نسمات الهواء يَمنةً ويَسرَة، يداها الصغيرتان التي كانتْ لا تتّسع لحمل كُرتها الزرقاء
كل ذلك لاحَ أمام ناظري، حينها أجهشتُ بالبُكاء بشكل هستيري، والذي كنتُ قد توقفتُ عنهُ مُنذُ مُدَّة بسبب تلك الحُقن التي كانت تُعطى لي كلما باغتتني تلك النَّوبة من التشنُّج، وحتَّى دونها، تُحقن بجسدي وسرعان ما تفقدني الوعي!
على غير العادَة، كانت المُمرّضة قد نسَتْ اعطائي الحُقنة تلك الليلة التي رأيتُ فيها طيف طفلتي يلوحُ أمامي، وعلى رُغم تعبي خلال كُلَّ تلك السّنين التي قضيتها بين تلك الأدوية التي تجرّعتها رغمًا عنِّي وتلك الحُقن التي كانت تُغرَس بلا رحمة تحت جلدي، إلَّا أن تلك الليلة شعرتُ فيها برحمة الله تدنو مني
عندما أرسل النُعاس على عينيّ تلك الممرضة ليتخففْ جسدي يومًا واحدًا من ذاك السُم الذي كان يقتُلني ببُطء!
بكائي حينها أيقظ كلّ المرضى في الغرف المُجاورة وكانوا في حالة من الذُعر، فذاك البكاء لم يسمعوه إلَّا قليلًا في بداية دخولي لهذه المصحَّة، بعدها عرفني الجميع بهدوئي وانعزالي عنهم
أما تلك المُمرضة لم يزعزعْ بكائي نومها أبدًا، وأنا التي كنتُ أترقَّب بأي لحظة دخولها وحقنها لي بتلك الإبر المَسمومَة
لكن رحمة ربي كانت قد حفّتنِي، وكأنَّهُ اشتاق لسماع صوتي وبكائي، لقد ماتتْ تلك الممرضة تاركةٌ بجسدي سمومها القاتلة!
-لم يذهبْ عقلي ولم أكن مجنونة عندما أتى بي ذاك الرّجل لتلك المصحَّة، أراد فقط أن يتخلَّص مني بأي طريقة؛ فلفَّقَ لي تلك التُهم، وكان قد اتفق مع تلك الممرضة بعد أن جلبَني إلى المصحَّة وَأبرم معها عقدًا، سيُعطيها مبلغًا من المال كُلَّ شهر مُقابل دسّ جسدي بأدوية تُفقدني العقل وتنهك قواي، ليُبرهنَ للجميع أنني حقًا مجنونة.
- قبل عشرِ سنواتٍ من الآن
كُنتُ قد رُزِقتُ بطفلة بعد عامٍ من الزّواج، واسميتُها "وَتين" فقد كانتْ أول أفراحي وبهجة روحي، لم تلبثْ معي طويلًا فقد حُرمتُ منها وهي في عامها الثاني، كان قاسيًا لم يرأف بحالي ولا لتلك التّوسُّلات بألّا يحرمني منها!
ركلَني بكلّ قسوة وجرَّني كمن يجر دابّة، بعد أن تلقيتُ منه لكمات متفرقة في وجهي أصابتني فورًا بالإغماء، ثم رماني في مكان غريب تشتمُ منهُ رائحة المرض فقط، بين أناس يظهر عليهم التّعب، علمتُ فيما بعد أنها مصحَّة نفسيَّة.
- كان لذاك الرجل حبيبة ولكنهُ مُنِعَ من الزواج بها، فزوجتهُ عائلتهُ رُغمًا عنه وكنتُ أنا الضحية التي ستكون كلعنة تلاحقهُ أينما حلَّ، وككابوس يحرمهُ نومهُ كلما غفَا.
-بعد عامينِ رحلتْ رُوح "مريم" لخالقها، وكانتْ تُتمتمُ بكلماتها الأخيرة: "لا تتزوجنْ بمن خاضوا الحُب مع نساء قبلكن،
وظلَلنَ مُعشعشاتِ بقلوبهم، صدقوني سيقتلونكم كما قتلني شِهاب!".
أسفي على أولئك النساء ضحايا أزوجهن
ردحذف