لم تبقَ إلّا الذكريات - صفاء القاضي



هنا كان حيُّنا الذي يضج بالحياة، أصوات الأطفال وقت اللعب، سهرات العائلة وأحاديثهم تتسرب خلسة من نوافذ المباني،حتى الشّمس تنتظر بزوغ الفجر بفارغ الصبر، لكي تشرق على الباعة المتجولين في الأزقة تسير خلفهم بين المنازل، تذهب بعدها إلى المدارس تُلقي التحية على طابور الصباح، تشارك الطّلاب نشيد الوطن، وتودعهم على أبواب الفصل. 

أما عن شعاعها فيداعب وجنات الجدّات وهنّ يقطفن ثمار الزيتون، فتنعكس صورة الوطن على محياهن.

هنا كنّا ولم يعد شيءٌ كما كان، حَزمت ملامح الحياة أمتعتها من حيِّنا، فاستقبله الموت بصدرٍ رحب، انقطعت الأصوات وهُدمت المباني، تهشمت النوافذ ولم تعد هناك عائلات!

أما عن الشّمس فقد أصابها الحزن، عندما أشرقت على صوت قصف الطائرات بدلاً من هُتافات الباعة، وعلى ضحايا الأطفال وأشلائهم، حتى أوراق الزيتون ذبلت حينما رحلت الجدّات.

أمّا عنّي، أقف كعادتي بين ركام منزلنا، وسط صوت المدافع وتحذيرات الاحتلال، أبحث عن جسد أمي من تحت الأنقاض، أناديها بصوتي لكن لم تجب، أود لو أرى بسمتها ليطئمن قلبي من خوفهِ، أو حتى أشم رائحتها العطرة، لتبقى بدلاً من رائحة البارود والفسفور.

رفعتُ صوتي عاليًا: أتبخل ياركام عليَّ بذكرى منّها لأحملها معي إلى مستقبلي المجهول؟! 

نظر أخي إليَّ وقال: "لاجدوى من ذلك،هيا بنا نسير مع موكب النازحين".

تركنا حيّنا، ووالدتي، ولم يكن معي سوى ذكرياتي.

تذكرت مقولة جدي عندما كان يقول: "أنا فلسطيني، أبلغ من العمر خمسةٌ وسبعون خريفًا، تساقطت أوراقها بين مخيمات الشتات".

أمّا أنا سأقول: أنا من غزة أبلغ من العمر بضعة أحلام، أُجهضت قبل المخاض، رافقني الصبر منذُ الصغر، وربت الكفاح على كتفي، أمّا عن الموت فينتظرني في منعطف الطريق، لنصبح جميعنا مشاريع شهداء نرتدي الكفن بدلاً من شهائد التخرج.


منشور من العدد 41 لمجلة منشورات الواحة

 Inst

agram: manshurat_alwaha

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد الشريف.. العالِم الطيار - السيد سين

فماذا أقولُ ياقُدسي - سارة سامي