من بين زحام الألم كانت تلك قصتي! - نورية النصيري
لم البث في سجون الإحتلال يوماً أو بعض يوم، بل لبثتُ مائة عاما...نعم مائة عاما.
قُسٌمت الساعات منذ أن جثى على رقبتي الرقيقة ذاك العملاق الجبان وعمري لايتجاوز العاشرة.
كنت حينها اللعب مع رفاقي في إحدى الزقاق الملاصق لبيتنا العتيق، اتذكر ذلك اليوم حين منعتني أمي من الخروج وقالت لي:لاتخرج الشارع اليوم لأن جنود الإحتلال الظلمة منتشرين في المنطقة، وينتظرون الفريسة السهلة الصغيرة لفتراسها.
لم التفت لتهديداتها، بل غافلتها وركضت مسرعاً باتجاه الشارع لملاقاة أصدقائي واللعب معهم، لكن ماهي إلا لحظات حتى باغتتنا تلك الطواقم والدبابات، و بنخوة الفلسطيني وشجاعته،هرولنا للمقاومة، وارسلنا وابل من الحجارة لم تأذ أجسادهم لكن أذت قلوبهم وشعروا بالخوف من مجرد اطلاق تلك الأيدي الصغيرة الحجارة الصغيرة..كان موقف مهيب زادنا قوة، وتمكنوا من القبض علينا في النهاية، وبداخلنا قنابل من الغضب والحنق عليهم.
دارت الأيام والسنون ونحن تحت رحى التعذيب ليل نهار..
بلغنا العشرين ومازادنا إلا إيمانا بجنة الخلد التي وعدها الله للمظلومين من عباده.
وما أن توقفنا على عتبات الثلاثين حتي أندلعت شرارات النصر، وسطعت شمس الأمل التي كنا نحلم بها ..
وقررت الحكومات الطاغية أن تحررنا من حريتنا التي ظنت انها سلبتنا أياها، لكن الحرية في القلوب ولايستطع مخلوق أنتزاعها، بل خرجنا نشتم تراب بلادي،ونستنشق هوائها العليل.
وما أن تهللت التباشير لخروجنا حتى بدأت كلمات الأشتياق تتزاحم،..
ماذا حين أرى والدتي؟
هل ساعوض العاب طفولتي مع شقيقاي الصغيرين؟
ماذا عن بسمات أخواتي العذبة التي توحي بالإطمئنان؟
ماذا عن تلك البناية الملاصقة لبيتنا من جهة الشرق، هل بناها صاحبها؟ أم سلبها المستوطنون؟
ماذا عن أشجاركِ ياغزة هل تمايلت أغصانك مع نسمات النصر القادم بإذن الله؟
ترى هل سيسمح لي بإكمال تعليمي وخدمة وطني؟
وماذا لو مازالت تلك الوردة الربيعية تنموا وتنتظر قدومي مع كل شروق شمس؟
ماذا؟
وماذا؟
وماذا؟
اسأله كثيرة تغزو ذاكرتي، وأشياء جميلة ترتسم في مخيلتي كلما أرى أطياف أمنياته تُبنا في خيالي.
وماهي إلا لحظات حتى غطت عصابة سوداء على عيني ومشيت بلا هُدى حتى سمعت ضجيج الناس من حولي، وروائح الدمار تلفني من كل جانب، حينها أيقنت أنني في غزة،
بدأ النور يتسلل إلى عيني المغمضتين بعد ارتفاع الغطاء، وتراب فلسطين الأبية تداعب أقدامي، بدأت بلهفة أتفحص كل شيء، كما يتفحصني كل شيء.
اتفحص الرمال والأحجار، والأشلاء والدماء، والمقابر الجماعية وركام المنازل.
اتفحص أعين من حولي علني اجد أعين أمي، أو شبيه أبي.
أظن ذاك الطفل أخي، أو تلك المرأة أختي، لابل جارتي الحسناء..
وبينما عيناي يتنقلان بقلق بين الناس إذ دبّ اليأس، وغزا قلبي حين طبطب على كتفي أحدهم وقال:"كلنا مشروع شهادة، وأهلك يابني كلهم ذهبوا شهداء، فلربما أبقاك الله للنصر العظيم."
لم أستوعب تلك الكلمات، ولم أستطع النظر إلى بخار أحلامي يتسلق عنان السماء، ولم امتلك قوة تحمل قدماي الثقيلتان كي تواصل الحياة، بل جثت على ركبتي، ودعوت الله أن يربط على قلبي ويثبتني ويصبرني على مصابي هذا.
إنا لله وإنا اليه راجعون..
ياصاحبي إنها شعور الإنسانية، فلابأس من بضع دمعات، وقليلاً من الزفرات..
فهاهو نبيك محمد صلى الله عليه وسلم قال:"إن العين لتدمع وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون"
وهذا دليل على طبيعة الحزن والألم بين بني البشر.
وأنتِ يا فلسطين ستعود لك الحياة زاهية، وستنعمين بأيام الهناء والسعادة مهما طال صمت الخيانة والتخاذل عن نصرتك...فالنصر قادم برجالكِ الشرفاء.
* منشور من العدد 40 لمجلة منشورات الواحة
Instagram: manshurat_alwaha
تعليقات
إرسال تعليق
اكتب تعليقا لتشجيعنا على الاستمرار...