نــعــود - أسماء سامي




هل تساءلتَ يومًا عَن ما خلفَ الصَوت؟ أو هَل طَرأ على بالُك شَكل وَلون الحياةِ هُناك؟ هَل للصمتِ صَدى يَرجُّ فِي دَهالِيز الوجود؟ وبَرودة المَنازِل؛ هَل لِجُدرانها دِفءٌ يَقيكَ صَقيع المَشاعِر المُتضارِبة! رُبَّما سَتتوهَم بأنّ كُلّ مَا يَدعو لِلحياة مَنفِيٌ مِن خَارِطة الياسَمِينِ تِلك! دَعَني أُبَشِرك؛ مَا هَذه إلا خُزعبلاتِ تَهذي بِها، وَتتوهمُ وجُودَها، الحَياة تولودُ هُناك، الأحَلام تَتسرّبُ وتَنسكبُ مِن شَرُوخ الجُدران؛ وتَملأ الأُفقَ غايةً لنْ تَذبل. لن تَجد الحُرّية تباعُ هُنا؛ بَل سَتغرفها غَرفًا مِن مآقي الرِجال، والنِساء، والشَيوخ؛ حَتى الأَطَفال يُولدون وعلى جبينهم مرسومٌ لونٌ للحُرية! الأطفالُ هُنا فِي فِلسطين لم يَولدوا للحياة؛ بَل ولِدوا للنِضَال، ولدوا وهُم يقبضون حِجارة مِن جَهنّم؛ يَرمونَ بِها كُلَّ مُحتلٍّ يَحسب الأرضَ أرضه، ولا يَعلم أنّ مَصيرهُ يؤولُ إلى الشّتات. كُتِبَ فِي سَجّل الأطفال هُنا الكِبر؛ قبل أن يجربوا ثوب الطفولة، وفِي شَهاداتِ مِيلادهم لا يُسجل تَاريخ اليَوم؛ بَل يُسجل عَدد الصَواريخ التي دَوت فِي أَسماعِهم؛ عِندما خَرجوا لِلحياة. يُسجّل بَين النَبضةِ، والنبضة تاريخًا لشبلٍ ولدَ في وسطِ الدمار، الآن تعرفُ سببَ هذا الحبّ الشديد للشهادة الذي يتطايرُ من أعينهم،وكأنّ الفردَ منهم يرى النهايةَ وهو في اغورارِ البداية. 

-الحنينُ هنا مختلف، أتعلمُ ذلك؟

: الحنينُ إلى ماذا؟

-إلى الزمنِ الذي ينامُ فيه الطفلُ مطمئنًا

دون أن يكونَ كهلًا في سنّ السبعين!

: وهل يكبرُ الأطفالُ بِهذه السُرعة؟!!

-نعم يكبرون في هذا الوطن، يكبرون عِندما تُبترُ أجزاءٌ مِن أرواحِهم! ‏يكبرون برهةً هكذا دون أن يشعروا، لا يقاسُ العمرُ في هذا الوطن بالسنوات، مِقياسهم هُنا في فلسطين المواجعُ والأحزان، مِقياسهم هنا الحربُ التي أخذتْ كل ما يملكون من أحبابٍ فهرموا من بَعدهم. من أي طينٍ عُجِنوا هؤلاء الأشبال وكأنّ الطفل الواحدَ أُمة، طفلٌ يعلمنا معنى أن يرتجف لرميهِ جندي مسلح، أيُّ هواءٍ تنفسوه، وأي زادٍ نَمتْ بهِ أجسادهم،

تتساءل وتتساءل ولا تصلُ لإجابةٍ شافية، إلا أنّ هذه الأرض أرض المعجزات، أرضُ العزةِ وإن طال بها الدمار، أرض رجالٍ يزنُ الواحد منهم بألفِ ألف رجل، أرضُ نساءٍ مبللة أيديهنّ بالزيتِ والزعتر، يعجنّ من المستحيلِ مُمكنا، أرضٌ تحبُّ أبنائها بقدرِ ما احتضنتْ من الأجساد. في ملامحِ الطرقاتِ ستشتمُّ عبقَ النضال، وما خلفَ الصوتِ صوتٌ أزلي يترنمُ بنصرٍ آتٍ. يموتُ شهيدٌ فيتسربُ من كفنهِ صدىً لخلودِ القضيةِ في النفوس! لن تقتلوا الأرواح المنغمسة بنعيم بالمقاومة، ألا تعلم، إن للمقاومة نعيمٌ لن يتلذذَ بهِ إلا من عرفَ قضيةَ أرضهِ حقا، وحملَ نفسه، قبل أن يُحملَ على الأكتاف! لن تهدموا نصرهم وإن هدمتم الأسقف فوق رؤوسهم، ولن تقتلوا الغايات، والغاياتُ في صدورهم، لن تحصدوا من ثمرةِ حقدكم إلا خزيًا وعارًا، ألا تعلمون أن هلاك كل مستعمرٍ وإسرائيلي بات قريب. قريبٌ قريب موعد الصلاة في الأقصى.. قريبٌ قريب ونحنُ هنا كلنا في الوطن العربي نشتعلُ نُصرةً وإن كانت أيدينا قصيرة عن الوصل إلا أن حبالَ الدعاءِ متصلة ولم تنقطع، المساجد تصدحُ بالدعوات فلا تخافوا باتَ موعدُ نهايتكم محتوما وبلغَ النصرُ الحناجر فاستعدوا للمنفى! في صدرِ كل واحدٍ منا زمجرة وشرارة ستشعل وتحرق كل من مسَّ شعرة واحدة من إخواننا، دعوكم من الحُكام فما هم إلا قطعانًا جازعة،جُبناء وخونة ماتت في ضمائرهم الإنسانية والعروبة.. نحنُ الشعوب سننتفض، لن نقف صامتين، نحنُ أُمةٌ واحدة، النارُ التي تحرقهم تحرقنا أولًا، تعتصرُ الأمة بأكملها وجعًا عندما يبكي طفلٌ واحد في غزة، تنتفضُ الشعوب حرقةً وسط هذه المشاهد الهستيرية فتزدادُ قوة. ألا تعلم أنهُ كلما سقطَ شهيدٌ رُفعت غاية جديدة لن تخبت! اقتلوا كيفما شئتم فأرواحُ شهدائنا تُزفُّ في عُرسٍ في السماء، هناك حيث النعيم السرمدي، احرقوا ما شئتم فلن تزيدوا فينا إلا اشتعالًا وعزما، وسنسكبُ جامَ غضبنا عليكم، زيدوا زيدوا فستأتيكم الضربة القاضية وتطمسكم.. عهدًا علينا أننا لن ننسى ، لن نغفر لكل ظالمٍ طاغٍ ما رحمَ صوت الطفولة، لن نغفر ولن ننسى وجوه الخونة والمتخاذلين عن قضية أُمتنا.. حفظناكم حفظا، حفظنا ملامحكم وأشكالكم فانتظرونا. تبًا لنا إن مررنا هذه الأحزان دون مناصرة، تبًا للعروبةِ فينا إن كانت متخاذلة..اِعلموا أننا والله وتالله ما تخاذلنا ثانية، الشعوبة قاطبة ترسل عليكم وابلًا من الدعوات ستهلككم، يظهر مدى جبنكم وحثالتكم في وحشيتكم في هدم المستشفيات، جُبناءٌ جُبناء منذُ أن عرفناكم تخافون أن يخرجَ من المستشفى طفلٌ ينتقم منكم هذا ما تخافون منه لأنكم تعلمون أن النهاية باتت قريبة، فقصفتم المستشفيات المليئة بالأطفال. ولكن اِعلموا كلما مات طفلٌ سيولدُ ألفُ طفلٍ سيهزمكم..


بات موعد النصر قريب، وسنعود ولو انحنى ظهرُ الأيام وتساقطتْ أوراقُ عُمرنا. سنعود؛ وإن شاختْ ملامحنا..! سنعود؛ من خلف القضبان، وما بعد الحدود، سنعود حتى وإن خنقتْ أصابعُ أحلامنا، سنعود حتى وإن مُزّق قميصُ جسدنا، سنعود سنشرقُ بعد الأفول، وستنبتُ أشجارُ الزيتون بعددنا، وسيهتف العالم بأننا مُنتصرون. حتى وإن لم نعد نحن؛سنعودُ على أشكالِ أشباحٍ تلاحق كل محتلٍ ومستعمر؛ فالأرضُ أَرضُنا، والماء ماؤنا، والزيتونة تلك في وسط الطريق زيتونتنا؛ تلك أسماؤنا نحتناها فيها حتى نعود، ولو بعد ألفِ عام، ولو بعد الرحيل سنعود على أصواتِ المدافع من تحتِ الركام ،ومن وسط دخان الغازات والبارود، سنعود لنثبت لكم أن هذه الأرضُ أرضنا، هي أُمُنا هذهِ أرضُ فلسطين ستعود حتى وإن لم نعد!



* منشور من العدد 40 لمجلة منشورات الواحة

 Instagram: ma

nshurat_alwaha

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد الشريف.. العالِم الطيار - السيد سين

فماذا أقولُ ياقُدسي - سارة سامي