فقرة رَواء وكتاب

 


رواية: زمن الخيول البيضاء - الملهاة الفلسطينية

-رَواء


"الرواية هوية سردية واداة معرفة - ومن مزايا الأدب بنظري .."

في كتاب أشقاء الزورق الواحد قرأت أقتباس يقول بأن "الجماعة التي تفقد ذاكرتها تفقد هويتها تبعاً لذلك إذا كان الأمر يتعلق بالحفاظ على جماعة ما، فالنجاح و الفشل في المعركة يعتمد على السعي نحو ابقاء الذاكرة حية"

يقول بول ريكور " اية هوية هي هوية سردية بالأساس" فـ يمكن التقرير بأن هويتنا تتكون مما نحن قادرون على سرده "

لذا تبدأ "أحداث الرواية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وصولاً لعام النكبة، أي إنها تمتد لأكثر من 129 سنة من تاريخ فلسطين الحديث."

‏"محاولاً إبراهيم نصر الله تبيين ذلك التاريخ وتثبيته في الذاكرة من صراع اهل قرية الهادية و معاناتهم في أواخر الحكم العثماني، مروراً بالانتداب البريطاني، وصولاً بالاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية

-جاءت زمن الخيول البيضاء مثقلة بالماضي و مثقلة بذلك الزمن رغم خفة ورقة ورشاقة لغة نصر الله، جاءت لتعطيني انطباعاً كافياً لطبيعة القرى الفلسطينيه قديما قبل النكبة

لكي أرى الصورة كاملة قبل أن يشوبها أذى،

قبل ان يطألها الخراب

ثم أرى ذلك الخراب والاذى ايضاً في تلك السطور

لكي يتعرف هذا الجيل على تاريخ فلسطين ، و لكي يتوارث ذاكرة هذا التاريخ

-و كما قال عبدالرحمن منيف عن الرواية :

انها تسير و تكشف و تعكس المراحل الأكثر أهمية في حياة الشعوب و انها سجل الأفكار و الأحلام و ضباب الأمل ايضاً وسوف تقول و باساليب عديدة : اي عصر عشنا فيه واي مصاعب واجهنا واي تحديات انتصر عليها رجال ونساء هذا العصر،ستكون الرواية حافلة بأسماء الذين لا اسماء كبيرة او لامعة لهم وسوف تقول كيف عاشوا وكيف ماتوا وهم يحلمون

وسوف تتكلم الرواية ايضاً و بجرأة عن الطغاة الذين باعوا أوطانهم و شعوبهم

الرواية أداة معرفة ولكنها المعرفة الجميلة أن صح التعبير، إنها تخاطب العقل و الوجدان معاً "

لذا جاءت زمن الخيول البيضاء لكي تعرفنا على قرية الهادية

تلك القرية التي قد يكون لها من اسمها وافر النصيب فقط عندما تراها هادية من أعلى تل هناك تتحتضنها كروم الزيتون وحقول القمح ..

رغم أنها صاخبة بحكايات اصحابها و مواقفهم ومشاعرهم 

اعتقد برأيي الشخصي أن ميزة الأدب الحقيقي انه مهادنه مع المستحيل

والا فـ من كان يدري اني سألتقي الهاديه؟!

ثم اتجول في حاراتها واهتم لمواسم حصادها

و حكايات أهلها و عاداتهم الجميلة؟! ، أن أتأمل حوش المضافة ورائحة القهوة التي تفوح عابرة حقول القمح والذرة و السمسم و كروم الزيتون؟؟

ثم صوت "مهباش" حمدان، الذي يبتكر ايقاعات ليعرف كل من سمع دقات المهباش - لمجرد نوع تلك الايقاعات- أن كان الضيف مرحب به ويحمل اخبار مُبهجة و خفيف على القلب أو عكس ذلك.. والذي سيتحول ذلك المهباش لمهمة أخرى كالانذار بالخطر بعد الحرب التي تطال تشويه كل شي

وإن يطربني صهيل الريح والجليلة، ووصف الحمامه و اصالتها؟!

ويرجف قلبي كما خالد كل مره عندما تعود له الحمامه من جديد بعد فراق مؤلم.

فبين سطور هذه الرواية شعرت لأول مره بشعور تفهم حب الفارس لفرسه.. لانه لا يبالغ، هذا هي العلاقة الأصيلة

كل تفاصيل هذه العلاقة تنبض أصالة..

ومن كان يدري انه سيحزنني لذلك الحد تضييق تلك الهادية على أهلها فيما بعد من قبل مستعمرة الانجليز؟!

ويضيق خاطري لرؤية مولدات كهربتها تهدر ممزقة هدأة الليل في الهادية؟!

ثم يضيق أكثر لهجماتهم؟!

وما نلبث الا ان يتسع بانتصارات الثوار و حكايات الشهداء منهم

ثم تدهشني عبقرية وسرعة رجوعهم لمواقعهم في الجبال..

وكأن التاريخ يعيد نفسه ولكن هذه المره كانت البداية من الانفاق..

وانا اقرأ جزئية مقاومتهم للانجليز فهمت ان القضية نفسها باختلاف المقاومين، هي نفسها باختلاف أساليب القتال

باختلاف التقنيات لكن الروح نفسها، نفس الهدف، نفسها المسافة صفر باختلاف الأداة و باختلاف قذائف الياسين وقذائف الشواظ ،

نفسها المقاومة قديماً يأتي الخبر مع الرياح وتتناقلة السنة اهل القرى، هم أنفسهم الان جيل المقاومة الجديد يبثوا لنا النصر بالمثلث الأحمر الذي يبهجنا🔻..

__

-ثم يبدع نصر الله في تصوير الألم، واي ألم كالنكبة؟ واي تاريخ من الألم تحمله هذه الكلمة؟ ،

فيحاول أن ينقلها لي نصر الله في هاديته!

رغم انهم " قرروا البقاء

-هل هناك بلاد يمكن أن تتسع لنا؟! راحوا يرددون"

لكن بقيت الهادية تصغر يوماً بعد يوم أمام أعينهم

و اوجاع النكبة باتت أقرب إليهم بل توغلت نيران العدو في قلب أرضهم إلى أن إحالتها رماداً واحالت أهلها بعيداً عنها موجوعين..

____

مهادنة الأدب هذه مدهشة، والا من كان يدري اني ساتعلق بكامل تفاصيل تلك القرية ثم ساكتشف فيما بعد انها من خيال الكاتب بالأصل؟ ولا وجود لها على أرض الواقع!

مهادنة الأدب هذه جعلتني أفهم أن نصر الله أراد اختزال 129 سنه من تاريخ فلسطين في الهادية.. ليتبين لي في نهاية المطاف أن هذه المهادنة تمت مع واقع ولن يتم وصول ذلك الواقع لي الا بشي مستحيل كالخيال في رمزية الهادية..

-

أحببت الرواية،

فهذه الرواية لا تقرأ لمجرد القراءة" ولكن لـ تُعاش" تدخل عالمها وتعيش بداخله، تحزن لحزن اصحابها وتفرح لفرحهم.. و تحب الخيل كما احبوها و ورثوا حبها، تحبها بعد أن يدهشك حب خالد للحمامة عندما آفاق و راها فجأة أمامه بعد فراق مؤلم طويل ففي تلك اللحظة

‏"أدركَ أنه لا يحلم، أنه لا يتوهّم، لكنّه لم يجرؤ على أن يقفز فرحاً، لأن قفزةً بحجم أشواقه لن تعيده للأرض ثانية."

نعم لهذة الدرجة!

ثم تتفهم ذلك الحب الأصيل بعد أن ترى بكاء خالد عند فراقها مرة اخرى مرغماً بسبب عجزه عن حمايتها

فيصف نصر الله ذلك الحب الأصيل بـ :

"تحبها إلى ذلك الحد الذي لم تجد فيه وسيلة للاحتفاظ بها سوى هجرانها. "

ختاماً : اعتقد ان ميزة الأدب الحقيقي ايضاً انه يهديك شعور دهشة كل مره، في أغلب الصفحات في أغلب المواقف في أغلب الحوارات

و زمن الخيول البيضاء من الروايات التي قد تعيد قرأتها مره اخرى، "ربما شوقًا للدهشة الأولى! "



* منشور من العدد 40 لمجلة منشورات الواحة


 Instagram: manshurat_alwah

a


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد الشريف.. العالِم الطيار - السيد سين

فماذا أقولُ ياقُدسي - سارة سامي