سجينة فلسطينية - رانيا منصور
- أسمعُ حارس السجنِ ينادي بأسماءِ من سيكونون ضمن تبادل الأسرى، وأنا متكورة في وضع الجنين، أستند برأسي قليلا على الجدار، لا أمل عندي ولم أفكر ولو للحظة أنني سأكون من ضمنهم، فالحرية تصبح بالسجن بعيدة المدى، والأمل يشبه الموت.
الإنسان كعادته إن تأمل مرتين ثم خذل يصيبه اليأس، فكيف بمن تأمل عشرات المرات فيخذل!
" لا تعيش على أمل الخروج كي لا تُهزم" كان هذا شعارنا.
حينما وصل الحارس إلى العدد 289 أغمضت عيني قائلة: شارف على الانتهاء، شارف على الانتهاء،، رددتُ تلك الجملة في عقلي كثيرًا
فيبدو أن رحلتي طويلة في هذا المهجع! يبدو أن المُعانات لن تنتهي! قد قطعت وعدًا على نفسي أن لا أتعلق ولو بقشة من الأمل! لِمَ روادني الألم الآن!
ما هذا الثقل الذي يجتاح قلبي، وما هذه الغمامة السوداء التي تغشى على بصيرتي! اخترق طبول أذُناي صوت الحارس قائلًا: يبدو أنكِ أحببت المكوث هُنا؟ أنادي لكِ، ولم تنطقين ببنت شفة.. هيا تحركي.
- لم أكن لأدرك حينها ماذا يقصد؟! ولا وقت لي لأحاول الاستيعاب!
وقفت في صف الطابور الواقفين أمام بوابة السجن، وبدأت أستدرك حجم الرحمة التي حاوطني الله بها!
أردت أن أيقن في قرارة نفسي حقيقة شعوري الراهن، هل أنا فعلا على وشك أن أصبح حرة؟
لكنني ما كدت أستوعب
حتى صرخت ملء شدقي بفرح:
يارب، إنها الحرية
صوت من أعماقي
لم يكن أنا، شعور كان يقاوم لسنين مضت تحت قضبان السجن والامتهان
وحين أدرك صواب الحقيقة حرر نفسه من قضبان الألم
ليصرخ ثانياً: إنها الحُرية
إنها الحُرية الحمدلله، سجدتُ سجدتَ شُكرلله، لأنني أيقنت الآن أنني سعيدة لأن الحلم بات حقيقيًا.
ولكنني لم أكمل بعد فرحتي بتحقيق حلمي فإذا بجنود الاحتلال يصرخون وكأنما قنبلة انفجرت عليهم:
- إنها ساجدة قالت الحمدلله سيدي الظابط.
- لن نستطيع فعل شيئًا الآن لقد وقعنا عقد خروجها.
- سمعت أحدًا يقول: دعها لي!
- فإذا به يركلني بقدمه خلف ضهري، حتى شعرت إن إحدى عظامي تحطمت!
- أكاد أجزم لولا أنهم لم يوقعوا عقد خروجي وضمانة الجميع بأنهم أحيا۽ لسلموني جثة هامدة فعل بها طغيانهم ما فعل!
- لكنهم جُبناء، أضعف من أن يفعلوها، ليس وفاء بوعدهم فأنهم أحقر من أن يكونوا أوفياء، لكن خوفًا من تهديد المقاومة، يخيفهم انتقام كتائب قسامنا!
تذكرت أنني سأكون حُرة وما يفصلني عن هذا الشعور سوى لحظات، وقفت كأن لا شي۽ أصابني، أتخيل اللقاء الأول بعد أعوامٍ من الغياب كيف سيكون؟ نهضت أرتب الكلمات، أهدم جدار الدموع؛ لتكون حُرة بعد اليوم دون قيد يمنعها من الانهمار على وجنتاي، فمنذُ دخلت السجن وهي خلف قضبان الحرية مثلي! بالسجن لا دموع! الدمع تعني الانكسار، الضعف، والهزيمة، ونحن لسنا أهلًا لكل هذا، نحن مثالًا يُحتذى به
بصبرنا ، بعزيمتنا، وقوتنا، الدموع تظهر للأحبة والأقرباء قلبًا، لمن نُدرك بأنهم سيربتون على قلوبنا بدلًا من أكتافنا، لا أمام من يتلذذون بانكسارنا ويرقصون على رُفات أحزاننا!
إثنى عشر عامًا ولم تلمح عيني الشمس! إثنى عشر عامًا ولم أستنشق رائحة تُراب غزة، إثنى عشر عامًا ولم أقبل رأس والداي، إثنى عشر عامًا ولم أسمع أصوات اخوتي، الكثير والكثير من الأشياء التي حرمت منها، ضاعت حياتي وأنا وراء القضبان، سلبوا عُمري وأحلامي؛ لأنني صرخت يومًا في وجه صهيوني "الأرض أرضنا وسنستعيدها بالقريب العاجل!"
أأخافهم هُتاف امرأة وتهديدها؟!
هأنذا أخطو خطواتي دون قيود ودون جلاد، أمضي حُرة،
أردد يا رب وبلدي حررها كما حررتني!
كل الأشياء حولي مُلفتة، كل الأشياء تبدو كمعجزة، الأشجار، الحجارة، الجبال، السماء، كأنني كفيف أول مرة يرى النور!
أول مرة يتأمل الأشياء حوله فكيف لكل شيء حولي يجعلني أطيل التأمل به،
لا يشعر الإنسان بالنعم التي حوله إلا حين يُحرم منها!
أول ما وطأت قدماي الأرض سجدت سجدتًا حُرة، دون ركلات، دون عقاب، دون قيود، استنشقت تُراب غزة الطاهر، وهواءها،
وقفت أبحث بين الوجوه عن وجوه عائلتي، حُرمت منهم لإثنى عشر عامًا؛ لكنهم لن يستطيعوا أن يطمسوا ملامحهم من ذاكرتي، لا زالت صورهم معلقة في حيطان الذاكرة، ممتلئة بغبار الحنين..
سمعت أحدًا ينادي باسمي، نظرت حولي بين الوجوه عليَّ أعرف مصدر هذا الصوت!
خطوت بضع خطوات نحوه، فإذا به رجلًا في ريعان شبابه تقدم نحوي واحتضنني قائلًا: أنا شقيقك الذي أعتقلتِ وهو يبلغ من العمر أربع سنوات، حبيبة فؤادي وشقيقة روحي اشتقنا إليك، لا سامح الله من أحرمك منا لا سامح الله من كان السبب في بعدك، ضممته إليَّ بشوقٍ؛ كشوق يعقوب ليوسفه، شممت رائحته، قبلته لم أود مفارقته، لم أود مغادرة ضلوعه.
لأتحدث من بين شهقاتي:
ـ أين الجميع؟ لِمَ لم يأتو معك! ألم يشتاقوا لي؟
- الجميع يا عيني أخاكِ أعطونا أعمارهم ورحلوا، حاشا لله أن لم يحنوا إليكِ!
- أمي توفت قبل خمس سنوات منذ أن ذهبتِ للمعتقل كانت ترتدي معطفكِ وتبكي، تدعو إليكِ، تكتب لكِ العديد من الرسائل وتتركهم على طاولتكِ، لم تدع أحدًا منا يدلف حجرتكِ؛ خوفًا من أن تزول رائحتك منها، حتى وجدناها ذات صباح قد فارقت الحياة بسكتة قلبية!
وفي 9 أكتوبر ذهبت لجلب الخبز لوالدي وإخوتي وعندما عدت لم أجد الحي ولا المنزل ولا هم!
بقيت أنا لولا أمل أنني سألتقيكِ لما بقيت اليوم على قيد الحياة أمامك!
لم يعد لدي شعور لأتصور حجم الفاجعة.. جعلت لكم ذلك ..
....
تصوروا حجم الفاجعة يا أصدقاء! تصوروا حجم الألم الذي سيجثو على قلبها! ما تحملته لإثنى عشر عامًا في سجون الاحتلال؛ لأجل أن تلتقي بهم مرة أخرى كانوا قد رحلوا! أي أمل كانت تعيش على قيده؟ أي لقاء كانت تتصوره؟
* منشور من العدد 40 لمجلة منشورات الواحة
Instagram: manshurat_alwah
a
جميل يا رانيا
ردحذف- شكرًا لمرورك.
حذفانت مبدعة كما عهدتك ،
ردحذفلا فض فوك .🌹🌹
رائع
ردحذفبدعتي جزاك الله خير
ردحذفيحيى
ردحذف