المدينة المنسيّة "براقش" - بسام ربيع

 









بعد ساعاتٍ من الركض سريعًا توقفت في مكان غريب بعدما شعرت بإجهاد شديد حتى كدت أن أسقط أرضًا!

حاولت إكمال مسيري لكنني شعرت بأن طاقتي على وشك النفاد.

وضعت يدي على ركبتي، ثم أطلقت زفيرا عميقًا من أثر التعب والإرهاق، رفعت رأسي بعدما شعرت بالقليل من الارتياح، نظرت أمامي وإذ بي في مكان غريب، مكان أشبه بمدينة طمستها الطبيعة من الوجود!

وكأن زلزالًا عنيفًا ضرب أجزاءها فأحدث فيها خرابًا هائلًا، وحوّلها إلى مدينة منكوبة..

لا شيء يبدو طبيعّيًا هنا، صمتٌ مخيفٌ يعم أرجاء المدينة، ومنظر مهيبٌ يتوشح بقايا تلك المدينة المنسيّة، قطعٌ أثرية، ومنقوشات مخطوطة، ومنازلٌ بأكملها التهمتها رمالُ الصحراء..

أين أنا؟

وما هذا المكان الغريب؟!

بالصدفة وجدت نفسي وسط مدينة كبيرة يحيطها سورٌ كبير، وقفت مندهشًا وفي اللحظة ذاتها كان يتملكني خوف شديد من تلك المدينة القديمة!

وأكثر ما أخشاه أن تكون هذه المدينة مسكونة بالجن والشياطين كما كانت تخبرنا جداتنا أن المدن أو البيوت التي يهجرها أهلها تصبح ملكًا وسكنًا للجن!

تحليت بالشجاعة وبدأت مغامرتي في اكتشاف تلك المدينة الحزينة، وضعت إحدى قدمي على إحدى الأعمدة الحجرية بينما كنت أسير نحو الداخل فتمايل بي يمنة ويسرة حتى كدت أن أسقط!

بالصدفة وأنا أحاول السيطرة على توازني من السقوط، نظرت أسفل قدمي فرأيت أحرف كثيرة مكتوبة بخط المسند على ذلك العمود، فخطر في بالي مباشرة حديث والدي عندما حكى لي عن مدينة تشبه هذه المدينة بكامل مواصفاتها، بحصونها، ومعابدها، وأسوارها التي تحيط بها..

ماذا كان اسمها؟!

لقد نسيت

تبا لذاكرتي!

عندها وعلى وجه السرعة زاد شغفي في البحث، وزادت رغبتي في التجول واكتشاف اللغز المختبئ وراء أسوارها وعن السر المدفون في باطنها!

إنها أول تجِربة لي وإن قلت بأنها ستكون سهلة عندها أكون قد كذبت على نفسي..

بحثت في النقوش المكتوبة على الجدران والأحجار والأعمدة بحسب معرفتي لبعض معاني الحروف محاولًا استخراج نقش أو اسم يدلني على شيء يستحق المغامرة، لكن كانت الحروف مبهمة وغامضة نوعًا ما فباءت كل جهودي بالفشل، وتلاشى الأمل الوحيد الذي كنت أحمله بداخلي!

احمرت الشمس وبدأت تتلاشى هي الأخرى رويدا رويدا وها هو الظلام على وشك أن يسدل خيوطه السوداء فغادرت المدينة عندما علمت بأنني نسيت هاتفي ولا أملك ضوءًا يرافقني في هذه العتمة الموشكة، غادرت المدينة وأنا أتوق لمعرفة كل ما يخصها من آثار، ونقوش؟

وبالأخص معرفة حاكم هذه المدينة؟ غادرت المكان مع شعوري بخيبة أمل كبيرة لعدم اكتشاف أي شيء يفي بغرض مخاطرتي لدخول هذه المدينة المخيفة!

كنت أقول في نفسي سأعود مرة أخرى في مغامرة جديدة لاكتشاف هذا اللغز المكنون وراء هذه الأسوار العتيقة؟

وبينما كنت أغادر المكان سمعت صوت خطوات كانت تتبعني ببطء! شيء ما يلاحقني كظلي! توقفت واستدرت للخلف لأنظر

فتفاجأت مما رأيت! امرأة بقامة طويلة ترتدي زي الملوك تمامًا، جزء من جدائل شعرها الأشعث مسدول على وجهها وبيديها شيء من قطعة حديد وكأني وسط مشهد حقيقي من فيلم الضغينة ( The Grudge)‏، كانت تقف أمامي مباشرة وقطرات الدماء تقطر من جسدها وكأنها جُرحت للتو!

كانت تقف أمامي مباشرة ورأسها منخفضٌ للأسفل ولا يُرى شيء من ملامح وجهها حينها شعرت بتوقف قلبي لحظة!

حتى أن قدمي لم تجرؤ على الخطو مسافة قدم واحدة من قوة تصلبها في الأرض!

إن الأمر أشبه بخوض سباق مع الزمن، يتوقف قلبك ثم فجأة تشعر بخفقانه بسرعة توازي إخراج المرء الهواء بعد حبسه لمدة من أثر الخوف! 

بأحرف متعرجة سألتها من أنتِ؟

فلم تجب.. كان الصمت حكم الساحة!

من أنتِ؟

سألتها مرة أخرى فلم ترد بكلمة واحدة وكلما استمر صمتها على هذا النحو يزداد خوفي أكثر فأكثر، حاولت أن أصرخ من شدة خوفي فتراجعت عن ذلك عندما رأيتها تقترب نحوي ونحيبها يملء المكان!

كانت تتقدم نحوي وهي تبكي بشدة، أما أنا فكنت أتراجع بضع خطوات للوراء، هي تتقدم وأنا أعود للخلف ثم توقفتْ فتوقفتُ أنا وبادرتها بنفس السؤال من أنتِ؟

هذه المرة صرختُ في وجهها بأعلى صوتي فرفعتْ رأسها قليلًا فانزاحت بعض شعراتها التي كانت تغطي على وجهها فتعرفتُ على بعض ملامح وجهها، كانت امرأة جميلة وتبدو حزينة، والدموع لا تفارق عينيها، أقل ما يقال عنها بأنها تعرضت للظلم!

من أنتِ؟

قالت بصوت مبحوح أنا براقش..

براقش؟ نعم أنا براقش وأنا حاكمة هذا المكان وهذه الدماء التي تسيل مني هي دماء براقش التي ماتت ظلمًا وقهرا!

فعرفتُ أن هذه المدينة هي براقش وهو نفسه اسم هذه الفتاة التي حكمت المدينة عِوضًا عن والدها الملك، بعد أن ذهبوا للحرب ولما عادوا منتصرين وجدوا براقش على رأسهم والجميع بخير فتآمر القوم عليها ليقتلوها وأشهروا عليها سيف الحقد مخافة أن تتولاهم امرأة!

وكما عرفت لاحقًا أنها كانت قديمًا تحمل اسم يثل (بخط المسند) "وتعد براقش العاصمة الدينية لمملكة معين، وتؤرخ ببداية الألف الأول قبل الميلاد، أعاد السبئيون بناء سورها في القرن الخامس قبل الميلاد، وشهدت عصرها الذهبي في القرن الرابع قبل الميلاد عندما اتخذها المعينيين عاصمة لهم"

كنت شاردًا في التفكير بينما هي تتحدث معي بنبرة مرتفعة وكأنها تنتقم مني بكلماتها المشحونة بالغضب، وكنت أقول في نفسي هل هي الأروح الشريرة أعادت روحها للحياة لتحرس المدينة وقتل كل من يقترب منها كما يحدث في أفلام الرعب؟

هل أنا الضحية الآن؟!

نسيت نفسي بينما كان عقلي يجر الأوهام نحوه ولم ألاحظ حينها كيف اختفت من أمامي في لحظة خاطفة؟

ذهبت الفتاة براقش وبقيت أنا والمدينة براقش والصمت ثالثنا في ليلٍ موحش!

انقضى الليل أجله (وأشرقت الشمس بنور ربها)، ولبست المدينة حلتها الجديدة، واستعادت هيبتها وعظمتها، عندها زالت كل  مخاوفي تلك.. شعرت بالأنس عندما صافحني النور وعادت الحياة إلي كما عادت الحياة لهذه المدينة ومنذ ذلك الحين وأنا أبغض الظلمة وأستوحشها، أما النور فكان رفيق دربي، وصديق قلبي، وتوأم روحي!

ولو لا تلك العتمة لما عرفنا قيمة النور.




منشور من العدد 42 لمجلة منشورات الواحة

 Instagram: manshurat_alwaha

تعليقات

إرسال تعليق

اكتب تعليقا لتشجيعنا على الاستمرار...

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

محمد الشريف.. العالِم الطيار - السيد سين

فماذا أقولُ ياقُدسي - سارة سامي